كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وكفى بربك هاديًا ونصيرًا}.
ثم يمضي في استعراض مقولات المجرمين الذين يقفون في وجه دعوة القرآن، والرد عليها:
{وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلًا}.
ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، وينشئ مجتمعًا، ويقيم نظامًا. والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولًا كاملًا شاملًا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يومًا بعد يوم بطرف من هذا المنهج؛ وتتدرج في مراقيه رويدًا رويدا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئًا فشيئًا، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخمًا ثقيلًا عسيرًا.
وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادًا للانتفاع بالوجبة الثالثة، وأشد قابلية لها والتذاذًا بها.
ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها. وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها. فجاء لذلك منجمًا وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة، وهي في طريق نشأتها ونموها. ووفق استعدادها الذي ينمو يومًا بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق. جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة. جاء لينفذ حرفًا حرفًا وكلمة كلمة، وتكليفًا تكليفًا. جاء لتكون آياته هي الأوامر اليومية التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان الأمر اليومي مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ؛ ومع الانطباع والتكيف وفق ما يتلقاه.
من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلًا. يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبته على طريقه؛ ويتتابع على مراحل الطريق رتلًا بعد رتل، وجزءًا بعد جزء:
{كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلًا}.
والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي.
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلًا متتابعًا، وتأثرت به يومًا يومًا، وانطبعت به أثرًا أثرًا. فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة، وكتاب تعبد للتلاوة، فحسب، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ. لم ينتفعوا من القرآن بشيء، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير.
ويمضي في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وتطمينه على إمداده بالحجة البالغة كلما فتحوا له بابًا من الجدل، وكلما اقترحوا عليه اقتراحًا، أو اعترضوا عليه اعتراضًا:
{ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا}.
وإنهم ليجادلون بالباطل، والله يرد عليهم باطلهم بالحق الذي يدمغه. والحق هو الغاية التي يريد القرآن تقريرها، وليس مجرد الانتصار في الجدل، ولا الغلب في المحاجة. إنما هو الحق القوي بنفسه، الواضح الذي لا يلتبس به الباطل.
والله سبحانه يعد رسوله صلى الله عليه وسلم بالعون في كل جدل يقوم بينه وبين قومه. فهو على الحق، والله يمده بالحق الذي يعفى على الباطل. فأنى يقف جدلهم لحجة الله البالغة؟ وأنى يقف باطلهم للحق الدامغ الذي يتنزل من عند الله؟
وتنتهي هذه الجولة بمشهدهم يحشرون على وجوههم يوم القيامة، جزاء تأبيهم على الحق، وانقلاب مقاييسهم ومنطقهم في جدلهم العقيم.
{الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانًا وأضل سبيلًا}.
ومشهد الحشر على الوجوه فيه من الإهانة والتحقير والانقلاب، ما يقابل التعالي والاستكبار، والإعراض عن الحق. وهو يضع هذا المشهد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم تعزية له عما يلقاه منهم. ويضعه أمامهم تحذيرًا لهم مما ينتظرهم. وهو مشهد مجرد عرضه يذل كبرياءهم ويزلزل عنادهم، ويهز كيانهم. وقد كانت هذه الإنذارات تهزهم هزًا، ولكنهم يتحاملون على أنفسهم ويظلون معاندين.
ثم يجول بهم جولة في مصارع المكذبين من السابقين:
{ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرًا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرًا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابًا أليمًا وعاد وثمود وأصحاب الرس وقرونًا بين ذلك كثيرًا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرًا ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورًا}.
إنها أمثلة مختصرة سريعة ترسم مصائر المكذبين:
فهذا موسى يؤتى الكتاب ويرسل معه أخوه هارون وزيرًا ومعينًا. ويؤمر بمواجهة {القوم الذين كذبوا بآياتنا} ذلك أن فرعون وملأه كانوا مكذبين بآيات الله حتى قبل إرسال موسى وهارون إليهم، فآيات الله قائمة دائمة، والرسل إنما يذكرون بها الغافلين.. وقبل أن تتم الآية الثانية في السياق يرسم مصيرهم في عنف وإجمال {فدمرناهم تدميرًا}.
وهؤلاء قوم نوح: {لما كذبوا الرسل أغرقناهم}.. وهم كذبوا نوحًا وحده. ولكن نوحًا إنما جاءهم بالعقيدة الواحدة التي أرسل بها الرسل جميعًا. فلما كذبوه كانوا قد كذبوا الرسل جميعًا. {وجعلناهم للناس آية} فإن آية الطوفان لا تنسى على الدهر، وكل من نظر فيها اعتبر إن كان له قلب يتدبر {وأعتدنا للظالمين عذابًا أليمًا} فهو حاضر لا يحتاج إلى إعداد. ويظهر لفظ الظالمين بدل الضمير لإثبات هذا الوصف لهم وبيان سبب العذاب. وهؤلاء عاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك. كلهم لاقوا ذات المصير بعد أن ضربت لهم الأمثال، فلم يتدبروا القول، ولم يتقوا البوار والدمار.
وهذه الأمثلة كلها من قوم موسى ونوح، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك، ومن القرية التي أمطرت مطر السوء وهي قرية لوط كلها تسير سيرة واحدة وتنتهي نهاية واحدة {وكلا ضربنا له الأمثال} للعظة والاعتبار {وكلا تبرنا تتبيرًا} وكانت عاقبة التكذيب هي التحطيم والتفتيت والدمار. والسياق يستعرض هذه الأمثلة ذلك الاستعراض السريع لعرض هذه المصارع المؤثرة. وينهيها بمصرع قوم لوط وهم يمرون عليه في سدوم في رحلة الصيف إلى الشام. وقد أهلكها الله بمطر بركاني من الأبخرة والحجارة فدمرها تدميرًا. ويقرر في نهايته أن قلوبهم لا تعتبر ولا تتأثر لأنهم لا ينتظرون البعث، ولا يرجون لقاء الله.
فذلك سبب قساوة تلك القلوب. وانطماسها. ومن هذا المعين تنبع تصرفاتهم واعتراضاتهم وسخرياتهم من القرآن ومن الرسول.
وبعد هذا الاستعراض السريع يجيء ذكر استهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقه تطاولهم على ربهم، واعتراضهم على طريقة تنزيل القرآن. وسبقه كذلك مشاهدهم المفجعة في يوم الحشر، ومصارع المكذبين أمثالهم في هذه الأرض.. كل أولئك تطييبًا لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذكر استهزائهم به وتوقحهم عليها. ثم يعقب عليه بتهديدهم وتحقيرهم وتنزيلهم إلى أحط من درك الحيوان.
{وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوًا أهذا الذي بعث الله رسولًا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلًا أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلًا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا}.
ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم ملء السمع والبصر بين قومه قبل بعثته. فقد كان عندهم ذا مكانة من بيته وهو من ذروة بني هاشم وهم ذروة قريش. وكان عندهم ذا مكانة من خلقه وهو الملقب بينهم بالأمين. ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الأسود قبل البعثة بزمن طويل. ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم أن خيلًا بسفح هذا الجبل قالوا: نعم أنت عندنا غير متهم.
ولكنهم بعد البعثة وبعد أن جاءهم بهذا القرآن العظيم راحوا يهزأون به ويقولون: {أهذا الذي بعث الله رسولًا} وهي قولة ساخرة مستنكرة.. أكان ذلك عن اقتناع منهم بأن شخصه الكريم يستحق منهم هذه السخرية، وأن ما جاءهم به يستحق منهم هذا الاستهزاء؟ كلا. إنما كانت تلك خطة مدبرة من كبراء قريش للتصغير من أثر شخصيته العظيمة ومن أثر هذا القرآن الذي لا يقاوم. وكانت وسيلة من وسائل مقاومة الدعوة الجديدة التي تهددهم في مراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية، وتجردهم من الأوهام والخرافات الاعتقادية التي تقوم عليها تلك المراكز وهذه الأوضاع.
ولقد كانوا يعقدون المؤتمرات لتدبير المؤامرات المحبوكة، ويتفقون فيها على مثل هذه الوسيلة وهم يعلمون كذبهم فيها عن يقين:
روى ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم موسم الحج فقال لهم: يا معشر قريش: إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن.
لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: إنه مجنون قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله طلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.. فتفرقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره.
فهذا مثل من الكيد والتدبير يشي بحيرة القوم في المؤامرات ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفتهم بحقيقته في الوقت ذاته. فما كان اتخاذهم إياه هزوًا، وقولهم ساخرين: {أهذا الذي بعث الله رسولًا} بصورة الاستغراب والاستنكار والزراية إلا طرفًا من تلك المؤامرات المدبرة لا ينبعث عن حقيقة شعورية في نفوسهم، إنما يتخذ وسيلة للحط من قدره في أعين الجماهير، التي يحرص سادة قريش على استبقائها تحت وصايتهم الدينية، استبقاء للمراكز الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي يتمتعون بها في ظل تلك الوصاية! شأن قريش في هذا شأن أعداء دعوات الحق ودعاتها في كل زمان وفي كل مكان.
وبينما كانوا يظهرون الهزء والاستخفاف كانت أقوالهم ذاتها تشي بمقدار ما في نفوسهم من شخصه ومن حجته ومن القرآن الذي جاء به، فيقولون:
{إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها}.
فلقد زلزل قلوبهم إذن باعترافهم حتى كادوا يتركون آلهتهم وعبادتهم على شدة حرصهم على استبقاء ديانتهم وما وراءها من مراكز ومغانم لولا أنهم قاوموا تأثرهم به وصبروا على آلهتهم! والصبر لا يكون إلا على المقاومة العنيفة للجاذبية العنيفة. وهم يسمون الهداية إضلالًا لسوء تقديرهم للحقائق وتقويمهم للقيم. ولكنهم لا يملكون إخفاء الزلزلة التي أصابت قلوبهم من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وشخصيته والقرآن الذي معه حتى وهم يتظاهرون بالاستخفاف بشخصه ودعوته، إصرارًا وعنادًا. ومن ثم يعاجلهم بالتهديد المجمل الرهيب:
{وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلًا}.
فيعلمون إن كان ما جاءهم به هو الهدى أو أنه هو الضلال. ولكن حين لا ينفع العلم، حين يرون العذاب. سواء أكان ذلك في الدنيا كما ذاقوا يوم بدر، أم كان في الآخرة كما يذوقون يوم الحساب.
ويلتفت بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه عن عنادهم وجموحهم واستهزائهم، فهو لم يقصر في الدعوة، ولم يقصر في الحجة، ولم يستحق ما لاقوه به من التطاول، إنما العلة فيهم أنفسهم. اهـ.